أزمة اقتصادية ليس لها حل اقتصادي
في أعقاب الاحتجاجات الشعبية الأخيرة والتي كانت معظم شعاراتها تركز على مطالب اقتصادية واجتماعية ومحاسبة القائمين عليها، صدرت أربعة تقارير دولية تناولت الأوضاع الاقتصادية والمالية الفلسطينية من مختلف جوانبها، وأُعدت جميعها قبل اندلاع الموجة الأخيرة من التذمر/الغضب الاقتصادي الفلسطيني الذي تمحورت أولى ظواهره في بداية السنة حول مسألة تعديل النظام الضريبي. وبينما أجمعت تلك الجهات الدولية على مدى تردي أداء الاقتصاد عموما والآثار الضارة اللازمة لمالية لسلطة الوطنية الفلسطينية خاصة، تجرأ المنسق لخاص للأمم المتحدة (الأونسكو) بتسمية الأمور باسمها حيث عنوَن تقريره: "الجهود الفلسطينية لبناء الدولة المهددة والنهوض من أجل إنقاذ حل الدولتين"، مما يعكس درجة ليست قليلة من القلق الدولي تجاه المخاطر الكامنة في اللازمة الاقتصادية الحالية.
وطبعا يشير هؤلاء المراقبين الدوليين (بدرجات متفاوتة من الوضوح أو الخجل) بأن السبب الأساسي للأزمة الاقتصادية ما زال العقبات التي يضعها الاحتلال الإسرائيلي امام النشاط الاقتصادي، لكن "الحكمة التقليدية" الصادرة عن البنك وصندوق النقد الدوليين ما زالت تردد منذ عدة سنوات بأن على السلطة الفلسطينية القيام بالمزيد من الإصلاح المالي والمؤسسي والسياساتي اذا كانت ستواجه الأزمة، وتجري المزيد من عمليات التمهيد ل"بناء الدولة"، وكأن قلة الإصلاح أو سوء إدارة السياسات والضعف المؤسسي هي ما تحول دون تحقيق التحرر الوطني والاستقلال والسيادة.
هذا الادعاء الذي استوطن في العقل الفلسطيني الرسمي ولدى "اهل الخبرة" الاقتصاديين منذ أول "خطة إصلاح وتنمية" في 2007 وصولا إلى إنجاز خطة "إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة" في 2011، رفع سقف التوقعات السياسية والمعيشية لدى مختلف الطبقات الاجتماعية مما ساهم في تشجيع الانتعاش بصورة لا بأس به في النمو الاقتصادي بين 2009-2011. لكن ما لم يستطع تحقيقه هذا "الوهم والسراب" الإصلاحي (كما اسماه جو ناصر من البنك الدولي)، هو تغيير دائم في "جودة الحياة" أو في احتمالات التنمية بشكل أشمل، ناهيك عن مساهمته في تراجع الحالة السياسية الفلسطينية والمشروع التحرري الفلسطيني من خلال اشاعة ثقافة من "اللا سياسي" بانتظار بلوغ الحل السياسي .
من الطبيعي ان المواطن المتعَب من عبء الغلاء والمديونية والضرائب وغيرها من ظواهر الاقتصاد الفلسطيني المعولم، يضع أمام حكومته ونظام الحكم مسؤولية حل هذه المشاكل (هكذا عودناه خلال السنوات الماضية بأن السلطة تتكفل بتأمين احتياجاته)، وفي نفس السياق فإنه من الطبيعي ان يحمّل المواطن الاحتلال وآلياته (اتفاقيات اوسلو وخاصة بروتوكوله الاقتصادي) مسؤولية استمرار متاعبه، فلا تناقض أو تخبط بين هذا وذاك، حتى لو أنها لم تعبر حتى الآن عن مطلب واسع النطاق أو رؤية بديلة متماسكة، أو حراك منظم يمضي في ذلك الاتجاه نحو نهايته المنطقية، لكن يبدو ان المواطن "العادي" بات يستوعب جيدا ما كان يعيه من قبل (ربما مع استعداده لصرف النظر عنه)، حول التشابك بين اوسلو - رمز إدامة الاحتلال وتأجيل الاستقلال، وباريس - رمز التبعية الاقتصادية لإسرائيل والويلات المعيشية المختلفة، ورام اللة - رمز الوعد غير المحقق والحياة البديلة العابرة، وسلطة أصبحت بعيدة عن آمال حركة التحرر الوطني التي أنشأتها.
ويتميز التقرير الصادر عن منظمة "الأونكتاد" والمعنية بالتنمية الاقتصادية الفلسطينية، في رسالته المتكررة لمن لم يفهم بعد الحقيقة الأساسية والثابتة، أنه لا يمكن تحقيق التنمية في ظل الاحتلال، وأنه ليس من حل اقتصادي للأزمة الاقتصادية الخانقة والمزمنة، دون سيادة واستقلال. يغني هذا التقرير المختصر والمليء بالأرقام والتحليل القارئ عن الحاجة لمراجعة أي تقرير آخر، لما يتضمنه من دقة وشمولية في وصفه للحقائق الاقتصادية على الأرض كما هي، وفي تحليله الأمين لأبعاد التنمية في ظل الاحتلال وفي توصياته الواقعية. وتكمن الأهمية الخاصة لرؤية الأونكتاد في أنها وضعت الأمور الاقتصادية في سياقها الصحيح ودون مراوغة. ويبين ان انسداد الأفق الاقتصادي الفلسطيني لا يعود إلى فشل سياساتي أو مؤسساتي اقتصادي فلسطيني كما يروج البعض، بل هو نتيجة طبيعية للآثار الضارة المتراكمة منذ عقود لمواجهة شعب اعزل مع ما يسميها الأونكتاد بـ "مؤسسة توسعية من النوع الاستيطاني/الاستعماري"، يحرسه احتلال عسكري متفوق، وتموله إحدى اكبر القوى الاقتصادية في المنطقة: إسرائيل، وتحميه القوة العظمة الأولى، الولايات المتحدة الأميركية. "فإﻧﻬاء الاستيطان والاحتلال شرط لا غنى عنه لترسيخ التنمية المستدامة، وما لم يحدث تحوُّل جذري في ميزان القوة الاقتصادية والسياسية بين الاحتلال الإسرائيلي والشعب الفلسطيني، سيظل الانتعاش الاقتصادي الحقيقي في الأرض الفلسطينية المحتلة بعيد المنال ."
يمكن من خلال استعراض العناوين الرئيسية لتقرير الأونكتاد، إجراء قراءة شاملة ومؤلمة للوضع الاقتصادي رغم مساعي السلطة الوطنية ضمن ما هو متاح لها للتخفيف من وطآه "الاحتلال الاقتصادي" والفقر والبطالة و فقدان القوة الشرائية للأسر الناجمة عنه، وأبرزها:
1. نمو خادع واستمرار الخسائر الاقتصادية الفلسطينية: حيث صُوّر الانتعاش الاقتصادي الفلسطيني للأعوام الـ3 الماضية من قبل المجتمع الدولي وإسرائيل على أنه بديل للانتعاش في المسار السياسي المتعثر، واليوم يؤكد الأونكتاد وصلنا إلى نهاية أسطورة النمو الخادع فعلا وغير القابل للدوام؛
2. القيود المفروضة على التنقل وتراجع المعونة والأزمة المالية عوامل تقوض النمو: حيث اصبح الشغل الشاغل للشعب الفلسطيني وقيادته كيفية مواجهة تلك الأزمة المالية والاقتصادية، بدل من صب جهودها في دحر الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية، التي لا بد من وجودها فعليا وليس افتراضيا لصياغة وتنفيذ أيه سياسات اقتصادية لصالح شعب طال عذابه المعيشي والإنساني؛
3. ارتفاع معدلات البطالة وتدني الإنتاجية والأجور الحقيقية: بسبب الحاقه بالاقتصاد الإسرائيلي ضمن ببروتوكول باريس الاقتصادي، فإن الاقتصاد الفلسطيني يواجه نفس ضغوطات التحرير التجاري والاقتصادي والمالي العالمي دون القدرة لاستخدام تلك الأدوات السياساتية الاقتصادية والتجارية والنقدية المتوفرة لإسرائيل أو "لأية دولة متوسطة الدخل" كما عمّدها البنك الدولي في 2011.
4. تآكل الدخول الحقيقية وتزايد الفقر بسبب التضخم: وخير شاهد على خطورة هذه الظواهر أن المواطن الفلسطيني لم يعد يتقبل بأن تفرض عليه ما هي بمثابة "ضريبة احتلال"، وكما جاء في شعار رفعه عجوز فلسطيني في الخليل: "ألا يكفينا احتلال بل علينا تحمل غلاء فاحش أيضا؟"
5. استمرار الأزمة المالية رغم الإصلاحات التي تجريها السلطة الفلسطينية: ولا يخفى على احد ما رُوّج منذ عام 2011 حول الجاهزية المؤسسية الفلسطينية لإدارة اقتصاد معاصر، فها نحن بعد عام على رفض مجلس الأمن الموافقة على طلب انضمام دولة فلسطين المحتلة للأمم المتحدة، يبدو أنه ليس هناك إصلاح كاف لضمان إصلاح العقول والقوى السياسية التي ما زالت تعتقد بأن الشعب الفلسطيني يمكن ان يقبل العيش دون نيل حقوقه الوطنية و صون كرامته الإنسانية.
6. تزايد الهشاشة المالية بسبب انعدام اليقين بشأن الدعم المقدم من الجهات المانحة: وهو عنوان هام للمانحين والذين تكرموا منذ فترة بالمساهمة في دعم السلطة الفلسطينية، ومن الطبيعي انهم اصبحوا اكثر مترددين من أيه فترة ماضية بشأن استمرار تمويلهم لنظام مالي ووظيفي اصبح يخفف عبء الاحتلال على القوة القائمة بالاحتلال، بينما يزيده ثقلا على كاهل المواطن الفلسطيني.
7. استمرار العجز التجاري والتبعية الاقتصادية لإسرائيل: وهنا بيت القصيد، حيث يبدو اليوم غير مقبول سياسيا وشعبيا وقانونيا ان يبقى الاقتصاد الفلسطيني أسير لاتفاقية اقتصادية مقيدة واتحاد جمركي مشوه أبرمت اتفاقيته قبل 18 سنة لخدمة مرحلة انتقالية وسلطة حكم ذاتي مدتها 5 سنوات، على ان تخلفها اتفاقية اقتصادية عادية بين دولتين. ومن الطبيعي اليوم ان يطالب الشعب الفلسطيني بالخروج من التبعية المتمثلة بهذه الاتفاقية على اسرع وجه ممكن، ومن واجب قيادة هذا الشعب التجاوب مع المصالح الوطنية العليا ودراسة جميع البدائل "غير الطبيعية" التي من شأنها إيقاف النزيف والتدهور الاقتصادي المتواصل.
8. وفيما يتعلق بالعقبات الرئيسية أمام التنمية الفلسطينية، لقد لخصت الأونكتاد بأسلوب بسيط وشفاف حقيقة ما يواجه الشعب الفلسطيني عندما تؤكد انه: "مثلما أظهر الرصد المنهجي لاقتصاد الأرض الفلسطينية المحتلة بمرور السنين، وعلى الرغم من أي مظاهر توحي بالعكس، ترتبط جميع العقبات الرئيسية التي تواجه الاقتصاد الفلسطيني بالاحتلال أكثر من ارتباطها بالسياسات الاقتصادية للسلطة الفلسطينية التي هي سياسات محدودة النطاق بطبيعتها".
9. تقترح الأونكتاد رؤية واقعية وتوجه استراتيجي هام في استنتاجها بأنه: "في ظل هذه ا لظروف القاسية التي تؤثر في الوصول إلى الأصول الوطنية والموارد الطبيعية الاستراتيجية، يظل بناء الدولة مفهوم بعيد المنال. وفي الظروف الراهنة، ينبغي أن تركز جميع الجهود على منع المزيد من التعدي على الاقتصاد واﻟﻤﺠتمع الفلسطينيين من خلال الاستيطان والاحتلال، بل والعمل على عكس اتجاه هذا المسار بالفعل."
الحقيقة أن الأزمة الاقتصادية وحدها ليست أخطر أزمة بل اصبحنا نواجه أزمة سياسية وأزمة ثقة، بل أزمة وجود السلطة الفلسطينية، ما يمكن تسميتها "بالعاصفة المثالية" (perfect storm) ، التي قد تطيح بكل شيء أو بقلبه رأسًا على عقب. وما قاله جليا رئيس الوزراء حول نفاذ البدائل السياساتية المالية والاقتصادية ضمن قيود اتفاقية باريس إنما هو صحيح: لم يعد ممكن إدارة نظام حكم يتحمل (ويُحمّله المجتمع الدولي) كل مسؤوليات الدولة دون التمتع بالصلاحيات والمؤسسات السيادية، بل في اطار احتلال عسكري إسرائيلي لا محدود، واليوم في غياب أي حل اقتصادي للأزمة المزمنة، تواجه م.ت.ف خيارات غير جذابة: أما الدخول في "صراع اجتماعي" مع شعبها، على ان تسعى لضبط الأمور وتهدئة الخواطر وتصحيح بعض التشوهات هنا وهناك، أو ان تخوض "حرب اقتصادية" مع خصمها الاحتلالي لتحل محل "السلام الاقتصادي" الإسرائيلي المرفوض جماهيريا، لكن دون القدرة على معرفة التكاليف المحتملة لذلك أو احتسابها... أو ان تغلق الأبواب والنوافذ بانتظار مرور "العاصفة"...
وبينما يدور الجدل الآن حول جدوى التخلص من باريس دون التخلي عن اوسلو برمتها وحول مخاطر لجوء م.ت.ف إلى لتبرئ من إدارة السلطة الذاتية في الضفة الغربية (بعد ان فقدت السيطرة على إدارة السلطة في غزة) ، يبقى هناك سؤالان يهمان كل مواطن يتساءل عن مستقبله المعيشي:
- اذا اعتبرنا ان اتفاقية باريس هي فعلا "اصل البلى"، فهل يمكن التخلص منها دون تفكيك اوسلو وألياتها ومؤسساتها؟
- وقبل الشروع بتفكيك أي شيء، أليس من الضروري أولا تصوير ما يراد من نظام اقتصادي وتجاري بديل والعمل على بلورة برنامجه؟
سأحاول الإجابة على هذه التساؤلات في الحلقتين القادمتين. [نشر هذه المقال في جريدة "القدس" الفلسطينينة و"جدلية تعيد نشره بالإتفاق مع الكاتب]